
السيادة المخترقة والموقف الرسمي الغائب..!
كتب / محسن العكيلي
وسط التصعيد العسكري المتواصل في المنطقة، وتحديداً في المواجهة المحتدمة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني، لا يمكن لأي متابع أو محلل أن يتجاهل حقيقة صارخة تتكشف يوماً بعد يوم: العراق لم يعد على الهامش، بل أصبح في قلب المعركة، شاء ساسة بغداد أم أبوا.
ففي الوقت الذي تتعرض فيه المنطقة لإعادة تشكيل عميقة للخرائط والتحالفات والموازين، اختار العراق الرسمي سياسة “النأي بالنفس”، كما لو أن الجغرافيا قابلة للفصل عن السياسة، وكأن الخطر يمكن عزله بالجدران أو البيانات الدبلوماسية. والحقيقة، أن هذا الموقف لا يليق بتاريخ العراق ولا بجغرافيته ولا بموقعه الاستراتيجي، الذي جعله دائماً في قلب الصراعات الكبرى، بل في طليعة من يدفع الثمن.
المعركة الدائرة اليوم بين إيران والكيان الصهيوني ليست مجرد مواجهة بين دولتين، بل هي صراع وجودي بين مشروعين: مشروع المقاومة الذي يسعى لحماية سيادة المنطقة من الهيمنة، ومشروع صهيوني-أميركي استعماري توسعي، لم يكن ليبقى على قيد الحياة لولا الرعاية الأميركية الكاملة. ومن هنا، فإن السؤال لا يجب أن يكون “هل يشارك العراق في المعركة؟” بل “كيف لا يرى العراق أنه جزء منها؟”.
فالسماء العراقية، التي من المفترض أن تكون تحت سيادة الدولة، تحولت إلى مسرح مفتوح للطائرات الأميركية والإسرائيلية. حيث تؤكد معلومات متطابقة قيام الطيران الأميركي بتزويد الطائرات الإسرائيلية بالوقود داخل الأجواء العراقية، لتنفيذ ضربات عسكرية ضد أهداف داخل إيران. كل هذا يحدث، دون موقف حازم من الحكومة العراقية، التي تغض الطرف عن أكبر خرق لسيادتها، رغم أن المادة الثامنة من الدستور العراقي نصت بوضوح على أن “أرض العراق لا تُستخدم منطلقاً للعدوان على دول الجوار”.
المفارقة المؤلمة أن بعض الأصوات السياسية التي ارتفعت سابقًا رفضًا لقصف إيراني استهدف مقرًا للموساد في أربيل، تحت شعار “انتهاك السيادة”، تلوذ بالصمت المطبق الآن أمام الخروقات اليومية الأميركية والإسرائيلية لسماء العراق. وكأن السيادة مفصلة على مقاس المصالح، تُنتهك حين يكون الفاعل حليفًا، وتُستنكر فقط حين يكون الفاعل خصمًا.
هذا الكيل بمكيالين لا يكشف فقط عن ازدواجية في الخطاب، بل عن أزمة وعي وقرار سيادي لدى كثير من النخب السياسية. فالبعض يظن أن الحياد في مثل هذه المعركة الضارية سيحمي العراق من ويلاتها، في حين أن الحقيقة تقول: العراق هو الهدف التالي، وهو جزء لا يتجزأ من هذا المشروع الاستيطاني الذي لا يعترف بحدود، بل يحلم بامتداد من النيل إلى الفرات.
إن الصمت اليوم ليس حيادًا، بل هو تواطؤ بصيغة أخرى. وهو ما يدفعنا للتساؤل: متى تُدرك النخبة الحاكمة أن السكوت في زمن العدوان خيانة؟ ومتى تُستعاد السيادة العراقية الحقيقية التي لا تُساوَم ولا تُباع على موائد السياسة الخارجية؟
ورغم أن غالبية الشعب العراقي تقف بوضوح إلى جانب الجمهورية الإسلامية في دفاعها المشروع، إلا أن القرار الرسمي لا يعكس هذا الاصطفاف الشعبي. وهو أمر ينذر بخطر كبير، ليس فقط على مستقبل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بل على مستقبل العراق ككيان سياسي موحد.
العراق اليوم أمام لحظة تاريخية فاصلة. فإما أن يكون جزءًا من مشروع المقاومة والسيادة الإقليمية، أو أن يظل ساحةً مفتوحة للخرق والإذلال والارتهان، تمهيدًا لأن يكون الضحية القادمة في مخطط التقسيم والهيمنة.
إننا لا نملك رفاهية الوقوف على التل. فالمعركة وصلت إلينا، وأرضنا لم تعد محايدة. والسماء التي تُستباح كل ليلة، لن تسألنا لاحقًا عن المبررات، بل ستُسجل علينا تهمة الصمت في زمن الانتهاك.