خوليو كورتاثار تحليل الضباب

ثقافة وفن
  • 16-01-2022, 08:22
+A -A

 إسكندر حبش (*)
في العام 1984 توفي في باريس الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار من جراء «سرطان نادر» في الدم. يومها قال الأطباء إنه سرطان غريب. غريب مثل كتبه وحياته أو بالأحرى بقدر ما يمكننا أن نعرف عن هذه الحياة أو عن هذه الكتب.

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
 
كان كورتاثار، كلما تقدم في العمر، كبر جسده، وصغرت تعابير وجهه؛ لدرجة أن الصور الفوتوغرافية الأخيرة التي التقطت له في ثمانينيات القرن الماضي، في باريس، وبينما كان يقترب من السبعين من عمره، كانت تظهره بمثابة “عملاق” ذي تعابير “لا تمسّ”: تعابير رجل في الأربعين من عمره.
رحل الكاتب وترك خلفه نصّين غير منشورين يعودان إلى مرحلة الشباب. النص الأول بعنوان “الامتحان” (رواية) والثاني بعنوان “يوميات أندريس فافا”. وأندريس فافا هذا، ومثلما تشير ملاحظة داخلية في الكتاب، شخصية متخيّلة، مستلّة من إحدى شخصيات رواية “الامتحان”. يوميات، سرعان ما تبدو بعد الانتهاء من قراءتها وكأنها إحدى النصوص النادرة لدى كورتاثار التي نستطيع أن نصفها بأنها تنتمي إلى السيرة الذاتية، على الأقل وفق مفهوم السيرة لدى كلّ كاتب. هنا لا نجد أي إشارات حميمية، بل ملاحظات حول القراءة وتأملات أدبية إذ إن بعضها يشير إلى قصص لم تجد نهايتها ولم تنشر إلا بعد عقود من ذلك. يوميات أشبه بما يمكن أن نسميه بـــ “تناسل ذاتي”، يكثف التفاصيل حول الحياة الأدبية الأرجنتينية، مع العلم أن بعضها لا يشكل “الشيء الكبير” للقارئ اليوم، فأهميتها تكمن في مكان آخر. كتابة تسمح لنا بأن نشهد على الطريقة التي اتبعها الكاتب “من أجل القبض على هذا الوعي” المتقدم عمّا كان عليه، أيّ تحوله من مثقف إلى كاتب من خلال اكتشافه التدريجي لأسلوبه. أسلوب أصبح إحدى خاصيات كتب كورتاثار فيما بعد. يقول مثلا: “أحببت دائما القاطعة (؛): فجأة كنت أجد أنه من المستحيل استعمالها، ما كان يسبب لي الاشمئزاز. أتذكر عندما كنت أصحح مسابقات تلاميذي في المدرسة، كنت أنزعج من عدم قدرتهم على الانتباه للّحظة التي تنتهي فيها الصيغة الفعلية (...) ومن هذا الجهل لدور القاطعة. كنت ألاحظ فجأة ضرورة أن تترك الجمل كي تتشابك مع بعضها، أن تترك بحرية. ليكن النثر مثل الأمواج (...)، ليكن حرّا ولينبثق من الركام الأسلوبي”.
 في روايته “ماريل” وهي الرواية التي تُعد تتويجا لنضجه الأدبي – نجد أصداء هذه المسيرة عبر شخصية موريل، التي تقول: “أشهد على الإشارات الرائدة لفساد أسلوبي. لقد فسد قواعديا وهو يتقدم صوب حزني الكبير نحو البساطة”. في “الامتحان” نجد مجموعة من خمسة شبان، كانوا ينتظرون امتحانا أدبيا، من بينهم أندريس فافا الذي كان يتسكع ليلا في شوارع بوينس أيرس التي يجتاحها الضباب، ضباب غريب تنبثق منه شخصية مقلقة تدعى هابيل، ترتدي لباسا كلباس راقصي التانغو وهي تتبعه بشكل مهووس. هذه الحرية في التسكع تأتي في مناخ يلفه التهديد والحُلمية والسياسة والتوهان الليلي بحثا عن حقيقة ما تستطيع أن تثبت كتابة “محطمة” أيّ بعض الأسلوب الجيد. كلّ ذلك يتمازج مع التأثيرات الأسلوبية و”الميلونغا” الأرجنتينية. أيّ بمعنى آخر نجد كلّ ما شكل الإرهاصات الأولى التي عاد وصاغها بشكل متجذر في روايته “ماريل” التي تبقى حتى اليوم رائعته المطلقة والتي علينا قراءتها قبل غيرها إذا ما أردنا اكتشاف كورتاثار وعالمه الكتابي.
  روى كتاب “ماريل”، على إيقاعات الجاز، هذا التسكع المزدوج للحُلُمي التهكمي الايروتيكي النفسي، ما بين باريس وبوينس أيرس لشخص يدعى أوليفييرا وقرينه ترافيلير. كتاب مؤلف من فصول قصيرة، أو بالأحرى تقصر تدريجيا، مرقمة، إذ إن الكاتب يقترح علينا للدخول إلى مناخات الكتاب، ثلاثة أنواع من القراءات الممكنة: الأولى، قراءة الكتاب من أوله إلى آخره أيّ وفق الترتيب الكلاسيكي المعتاد لأي عمل أدبي، أما القراءة الثانية فهي بحسب الترقيم المشار إليه عبر الملاحظة الاستهلالية، بدءا من الفصل 73 من ثم الفصل 1 و 2 و 116 الخ. أما القراءة الثالثة فهي عن طريق المصادفة، من حيث أردنا. كلّ قراءة من هذه القراءات المختارة نجدها تغيّر، تدريجيا، محتوى الرواية نفسها.
  كلّ كتب كورتاثار لا تتحدث سوى عن ذلك، أيّ وعلى قول كورتاثار نفسه “عن الذي يهرب من الذي نقوله في اللحظة نفسها التي نصوغ فيها الجملة”. من هنا كان مشروعه بأسره يتلخص في تهريب الأدب من الأدب.
كيف نعيد إلى الواقع هذه البداهة، القليلة البداهة، للإحساس بموضوع داخل كلمات يتوقف عن أن يكون عمّا كان عليه عندما رغبنا في قوله، كيف نستطيع القبض على الأحلام، وهي كوابيس عند كورتاثار، لا انطلاقا من الواقع النهاري الذي يرويها بفقر، بل انطلاقا من مادة الحلم نفسه. 
   كلّ كتاب، لكورتاثار وحتى كلّ قصة من أقاصيصه، هو درس في الأدب في الوقت عينه.
من هنا لو نظرنا إلى أفضل مجموعاته القصصية مثل “النيران كلها” (صدرت بالعربية عن دار شرقيات في القاهرة)، “النار”، “طرق الخسارة”، “الأسلحة السريّة” (صدرت بالعربية عن “مؤسسة الأبحاث العربية” في بيروت)، لوجدنا أنها تعلّمنا في الوقت عينه كيف نكتب وكيف نقرأ. على سبيل المثال، لو عدنا إلى كتاب “أنابيل” الذي يعد بمثابة يومياته، لوجدنا الكاتب وهو يتساءل عن كيفية رواية الحكاية. يبدأ كلّ شيء عندما يجد صورة قديمة ومصفرّة، لإحدى العاهرات التي عرفها قبل أربعين سنة في بوينس أيرس، عالقة، بين صفحات أحد الكتب، فيحاول من خلالها أن يروي قصته، لكن من دون أن ينجح في ذلك، إذ كان لا يستطيع أن يعود ويجد في ذكريات شبابه إلا هذه الاستحالة في الكلام لمثقف شاب لم يستطع تخطي الفئات الاجتماعية التي سمحت له بالفعل بمعرفة موضوعه، حتى وإن كان في النهاية قد كتب القصة بطريقة الرجوع إلى الماضي بشكل سلبي على الرغم من إرادة الكاتب الذي ختم بالقول: “لم يبقَ لي تقريبا أيّ شيء، لا الشيء ولا وجوده... لا الشيء الصافي ولا الموضوع الصافي... لم يبقَ لديَّ أيّ اهتمام. أيّ اهتمام حقا، لأن البحث عن “أنابيل” بعيدا في الزمن كان بمثابة الوقوع لمرّة جديدة في قعر نفسي ومن المحزن جدا أن أكتب عن نفسي وبخاصة أنني أريد الاستمرار في “الإنوجاد” وأنا أكتب “أنابيل”...
  تمتلك كتب خوليو كورتاثار هذه الخاصية التي يثيرها عند القارئ، وأقصد بذلك إثارة العواطف الغريبة. نرفع رأسنا، ننظر حولنا، فنتلوث بما يمكن لنا أن نسميه الحلمية المجسدة للكتابة، لنحسّ بهذا الشعور حين نرى باب الواقع وهو ينفتح لكي نقع في العالم الذي يصفه.
 في “الامتحان”، نجد أن التجربة تبدو أكثر إثارة لهذا الاضطراب اللزج لمناخ الرواية الذي يستدعي زمنا بعيدا، زمن الأرجنتين التي وقعت فريسة الفاشيّة التي كان يمثلها العهد البيروني. ومع ذلك، فإن قراءة بعض جمل هذا الكتاب اليوم تجعلنا نحسّ بأننا مجتاحون بشعور القلق المألوف. منذ الصفحة الأولى، وبينما كان الضباب ينتشر، نجد أنه يحيلنا إلى “الجمرة الخبيثة”. وما الحوار إلا الطريق الذي يقودنا إلى ذلك:
  - هل تعتقد أن الرعب قد حلّ؟ 
  * الرعب كلمة كبيرة. هناك إحساس غريب، إذ إن الشخص لا يتقبلّ أيّ شيء إلا من خلال الكذب، وهذا ما يتيح هذا النجاح الكبير لبيانات الحكومة. علينا أن نكون كتومين، لا نربح شيئا إذا أطلقنا فرضيات يعتز بها الخبراء والتحاليل؟ 
  - تحاليل؟ 
 * أجل بالطبع. في الجريدة كانوا يحللون الضباب، ولا نعرف النتائج بعد.
- تحليل الضباب؟ 
 * نعم يا سيدي الضباب. 
هذه السطور مكتوبة منذ أكثر من خمسين سنة. وهذا الرعب لم ينفك يتتابع، لا يزال يجتاحنا من الأمس وحتى اللحظة الراهنة: “عليّ أن أسقط من نفسي هذا العدو، ذلك الذي وقف كي يقتل الجزء الحرّ. الجزء الذي عليه أن يكون طيبا. انه قايـين الثائر، الكائن الحرّ، الذي عليه أن يحذر من الناعم والمثقف جدا هابيل”.
(كاتب لبناني)