رحلتهن بدأت في الريف وانتهت بالحلم.. النساء الريفيات بالعراق يصارعن لاستقلال "الجيب" والقرار

وسط أجواء ريفية تمنع الفتاة من العبور بحقيبتها المدرسية إلى نقطة أبعد من التعليم الابتدائي، صارعت رفل (22 عاما) ظروفاً استثنائية لتحقيق حلمها والحصول على وظيفة كحق تطمح إليه في ظل بيئة معقدة.
العيش في كنف عائلة تجرِّم إكمال الدراسة للفتيات وضع حلمها على المحك منذ نعومة أظفارها أيام الابتدائية.. " لو تموتين ما تسوين إلي براسج، المدارس مختلطة انسي"
هكذا كانت تقول والدتها، الأمر الذي زعزع ثقة رفل بنفسها وصار حلمها يصطدم "بالموت".
لكن بصيص أمل ضعيف وجدته رفل عند والدها بعد أن أقنعته بإكمال المرحلة المتوسطة في مدرسة مخصصة للبنات حصرا في مدينة الكوت (176 كم جنوب بغداد).
رحلة الكوت عاشتها رفل في بيت عمتها لست سنوات مع قطيعة مارستها والدتها في اخر ثلاث سنوات حيث رفضت مشروعها بأي شكل من الأشكال إلا أن الفتاة الطامحة ذكرت أمها أن قطيعتها ستنقلب فخرا في سنوات قادمة.
يُحظر في مجتمعات ريف وسط وجنوب العراق أن تكمل الفتيات تعليمهن وتنتهي رحلتهن في المدرسة فور تعلمهن القراءة والكتابة حتى وإن كانت متعرجة.
وبحسب وزارة التخطيط العراقية تشكل النساء الريفيات ما يقارب الـ 16% من مجموع السكان الكلي لكن ما يقارب الـ 30% منهن لا يدخلن الى المدارس اطلاقاً في حين ان 2.8% منهن فقط يكملن دراستهن الإعدادية وتحصل 1.8% منهن على شهادة البكالوريوس فما اعلى.
"الغياب عن الحقل يؤثر على الوضع الاقتصادي للعائلة" تقول مديرة مركز بابليات لتمكين المرأة الحقوقية نورس حسين وتزيد أن ارتفاع نسبة الامية لدى النساء الريفيات يعود الى عدم تقبل المجتمع الريفي لدراسة الفتيات مع الذكور في ذات المدرسة بالإضافة إلى الكلفة الاقتصادية "الباهظة" لتعليم الفتيات بالنسبة للعوائل الريفية لذا يقتصر التعليم على الذكور دون الاناث.
حسين تؤكد ان ضعف تفعيل بعض التشريعات الخاصة بدعم تمكين المرأة والمساواة مع الرجل بالرغم من انها منصوص عليها في الدستور العراقي يؤدي الى عدم النهوض بواقع المرأة الريفية كقانون التعليم الالزامي وقانون العنف الاسري.
أجرة خفية وعمة داعمة
بصعوبة وبسرية تامة، وفي بداية كل عام دراسي كانت رفل تحصل من أبيها على أجرة عودتها إلى بيت عمتها حيث تقيم هناك بالقرب من مدرستها.
الأب كان يدس في حقيبتها النقود خلسة وسط شجارات متكررة ومفتعلة تتسبب بها العائلة في محاولة لمنعها من الذهاب بعينين لامعتين تبتسم رفل وتضيف "كانت عمتي تحثني على الاستمرار كلما زادت ضغوط عائلتي، كانت ترفض ان أكون صورة مشابهة لها فقد منعها والدها من اكمال دراستها وقام بتزويجها في عمر لم يتجاوز الرابعة عشر. كنا نتشارك سوية الخوف من أن أواجه ذات المصير".
بمعدل 85% تخرجت رفل من المرحلة الإعدادية فصار أمامها تحدٍ آخر.
الدخول الى معهد التمريض مرفوض تماما من أهلها واقاربها وهذه المرة لن تسلم الجرة على حد تعبير عمها.
تقول رفل "عمي أخبر والدي ان العار سيلازمه مدى حياته لأنني سأدرس مع الرجال، لحسن حظي ان والدي لم يتأثر بكلام اخوته"
لكنها تفوقت على ظروفها وصارت تعيل أسرتها وتنفق على أخوتها في سبيل إكمال دراستهم واستبدلت والدتها الغضب بالابتسامة كلما شاهدتها خارجة من البيت وهي ترتدي معطفا أبيض.
فقر وزواج مبكر وأدوار مضطربة
تتناول أم علي 50 عاما دلو الحليب من بين يدي ابنتها وتحكي تفاصيل حياتها التي بدأت بترك المدرسة وانتهت بالحقل الذي يقع في احد ارياف ذي قار (359 كم جنوب بغداد).
"لم يكن العمل في الزراعة من اختياري لكن والدي لم يسمح لي بدخول المدرسة كما لم يسمح لأخواتي السبعة، وتزوجنا جميعنا قبل سن الثامنة عشر فدخل ابي المحدود لم يكن يكفي لإطعامنا وتعليمنا".
تستيقظ أم علي منذ أكثر من ثلاثين سنة منذ ساعات الفجر الأولى، تعتني بالمواشي والأرض وتجمع الحليب وتصنع مختلف منتجات الالبان.
تقول إنها لن تجني مقابل هذا العمل أي مقابل مادي وامعانا في العوز تشير إلى عباءتها السوداء في إشارة إلى فقدان الجديد في حياتها حتى على مستوى الملابس.
تُظهر بيانات مسح رصد وتقييم الفقر في العراق ان معدل النشاط الاقتصادي قد بلغ 42.8% وان نسبة مشاركة النساء في الريف بلغت 8.6%، وعلى الرغم من هذه المشاركة فإن اغلب النساء الريفيات يفتقرن الى الاستقلالية المالية كما هو حال ام علي.
تحمل المرأة الخمسينية الحليب على كتفها وتسير به نحو المنزل ثم تردف "لا أستطيع توفير ابسط احتياجاتي دون جدال طويل مع زوجي فالأموال بحوزته وكثيراً ما يرفض اعطائي جزءً منها، ليس لدي القدرة حتى على ادخار ما يكفي لشراء ثوب او عباءةيقول إنه ينفقها على حاجيات المنزل." تجر حسرة وتختم "كنتُ كلما تململتُ من حياتي الشاقة امام والدي، كرر عليَّ ذات الجملة، اصبري فبيت زوجك هو مستقركِ الأخير"
بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان فإن ما يقارب 25% من النساء في العراق يتزوجن قبل بلوغ الثامنة عشر، لكن النسبة تجاوزت الـ 30% في الريف حسب احصائيات وزارة التخطيط.
يبرر حسين عبيد واجهة احدى عشائر الانبار (243 غرب بغداد) (عبر الهاتف) هذه النسبة بهيمنة العادات والتقاليد المتوارثة على المجتمع الريفي ويضيف "ترتبط الفتاة بشرف ابيها وأخيها وجميع اقاربها لذا نسعى في الريف الى تزويجها مبكراً لغرض استقرارها خصوصاً وان الشهادات الاكاديمية فقدت قيمتها في الوقت الحالي. لن نخالف عاداتنا وتقاليدنا فالرجل هو المسؤول عن العائلة وتعليم الرجل يكفي لإعالة الاسرة".
وتشير الباحثة الاجتماعية انهار يوسف الى الطبيعة الذكورية للمجتمع الريفي كسبب مهم في الزواج المبكر.
تقول "العائق الرئيسي لتمكين المرأة الريفية اقتصادياً هو زواج القاصرات فالزواج في سن مبكرة يحرمها من فرصة الحصول على مستوى تعليمي او مهارات تؤهلها للعمل خارج الأراضي الزراعية".
وتُلفتْ يوسف إلى التمييز الواضح ضد المرأة الريفية نتيجة الخلل الكبير في توزيع الأدوار الاجتماعية والاقتصادية بين المرأة والرجل في الريف، لذلك لا تزال المرأة الريفية تعاني من مشكلة العمل بدون اجر وهذا الامر يزيد من فقر النساء ويترك تبعات نفسية كبيرة عليهن حسب وصفها.
ريف الشمال ليس الأفضل
عانت المرأة الريفية الكردية في العراق إضافة الى صعوبة العيش في الريف من عدم الاستقرار والتهجير المستمر بسبب الصراع السياسي مع حكومات قضت.
كانت بناز عبد الله (40 عاماً) التي تسكن في إحدى قرى محافظة السليمانية (379 كم شمال بغداد) إحدى ضحايا هذا الصراع.
تعرضت بناز مع أمها واخواتها الى التهجير القسري بعد عمليات الانفال عام 1988.
بحرقة تروي أحداث فقدان والدها في عمليات الأنفال تقول بصوتٍ تعلوه حشرجة "كنتُ في السادسة حين فقدتُ والدي في عمليات الانفال فقد كان معارضاً للنظام الحاكم حينها وتم افراغ قرانا وهدمها بالكامل. اخذتنا والدتي الى مدينة أربيل بعد ان اختبأنا لفترة في ديالى (132 كم شمال بغداد) عند أحد اقاربنا، عملت امي واختي الكبرى في الخياطة لتوفير اجرة منزلنا الصغير وقوت يومنا. وكثيراً ما كنا نغير مكان سكننا في أربيل لئلا يتعرف علينا أحد فقد كان اسم والدي يمثل تهمة حينها"
حال وضع عائلة بناز دون التحاقها بناز بالمدرسة ولم يكن وضع العائلة المالي مناسبا للدراسة ما دفع والدتها واختها الكبرى إلى تعليمها في البيت.
لتلتحق في ما بعد بالامتحانات الخارجية للمرحلة الابتدائية والمتوسطة ودخلت بعدها الى معهد المعلمات.
لكن الفرصة لم تتوفر لأخواتها على حد قولها.
يؤكد آشتي طالباني الوجه الاجتماعي البارز في محافظة السليمانية ان حال بناز واخواتها هو حال الاف النساء الريفيات في إقليم كردستان فقد حالت الحروب المستمرة بين المرأة الكردية الريفية وبين تعليمها حسب قوله.
ويضيف "يشترك المجتمع الريفي الكردي في سمات عدة مع باقي المجتمعات الريفية كالأعراف والتقاليد التي تلقي بظلالها على المرأة الريفية كما أدى تهديم القرى سابقاً الى شتات المجتمع الريفي الكردي. اما الآن فغياب المدارس المتوسطة والاعدادية في الريف وقلة الكوادر التدريسية هو العائق الأبرز أمام تمكين المرأة الريفية ويعود سبب ذلك الى سوء التخطيط والتنظيم".
أصابع الحيف تصل الى القرار السياسي
كفل الدستور العراقي الذي تم التصويت عليه عام 2005 للمرأة مساواتها مع الرجل في المواد 14 و15 و20 و22 و29 لكن البرلمان العراقي في دوراته الخمسة لم يشهد تشريع قوانين تساهم بالنهوض بواقع المرأة الريفية.
النائبة في لجنة المرأة والاسرة والطفل البرلمانية نداء حسن تعزو الأسباب إلى اعاقة العادات والتقاليد التي تحكم المجتمع الريفي لغاية الآن لتشريع هكذا قوانين.
تردف قائلةً "المرأة الريفية هي الأكثر تأثراً بالتقاليد ولا ننكر الطابع العشائري الذي يتسم به المجتمع العراقي لذا نجد الكثير من القوانين الداعمة للمرأة مؤجلة، كما ان المرأة الريفية غائبة بشخصها عن قبة البرلمان فلا نجد نائبة برلمانية قادمة من بيئة ريفية تحمل معها قضايا من تمثلهن"
توضح الإحصاءات الحكومية ان 41% فقط من النساء في المناطق الريفية شاركن في الاستفتاء حول الدستور العراقي عام 2005 ولا تتعدى نسبة مشاركتهن في التصويت على الانتخابات ال 63% في 2005 و2010، اما انتخابات 2014 و2018 و2021. فتغيب إحصاءات مشاركتهن فيها.
تشير الحقوقية صبا فلاح الى غياب الرقابة الحكومية عن الانتهاكات التي تتعرض لها المرأة الريفية وهذا ما يمنع النهوض بواقعها وتمكينها على مختلف الأصعدة حسب قولها وتؤكد على ان "غياب التوعية في مجال القوانين وحقوق المرأة وحقوق الانسان يشكل حاجزاً بين المرأة الريفية وحصولها على ابسط حقوقها".