استخدام "جسد المرأة بشكل فاضح" والقَسم برموز دينية .. كيف اصبحت الاعلانات الترويجية في العراق؟!!
تتطلب صناعة الإعلانات الترويجية للمنتجات والشركات التجارية، خبرات كبيرةً لضمان نجاحها وتحقيق الهدف التجاري المرجو منها، خصوصاً مع التطور الكبير الذي يشهده عالم التسويق، خاصةً الإلكتروني منه. كما يمكن أن يعتمد الإعلان الترويجي على مدى جودة المنتَج المروَّج له، وسدّه حاجة السوق والمستهلك، ليكون عصب الإعلان هو المنتَج ومدى الفائدة التي سيحققها للمستهلك. لكن في العراق، ربما يبتعد الأمر عن مجرد الإعلان عن المنتج، إذ تستخدم بعض المراكز التجارية والمحال، النساء كأداة رئيسية في عملية الترويج لمنتجاتها، كعرض الملابس والمجوهرات، على أساس ما يُعرف بـ"الوجه الإعلاني" لجذب الزبائن.
ما يثير الجدل ليس عمل النساء في مجال الإعلانات، بل أن هذه الإعلانات يتم إنشاؤها عبر صور ومقاطع مصوّرة لنساء مع تعمّد إبراز الأعضاء التناسلية والمؤخرة، وبسلوكيات إغرائية وبعيدة عن استعراض المنتَج وقيمته المادية. وبسبب هذا، تنتج ردود فعل كثيرة على هذه الإعلانات والنساء اللواتي يظهرن فيها، وليس على أساس المنتَج ونوعيته، ويبقى الحديث الشاغل هو جسد المرأة وتفاصيلها الأنثوية، وهذا ما يثير العديد من التساؤلات حول الأخلاقيات والتأثيرات الاجتماعية لهذا النوع من الدعايات
في حالات أخرى، يتم استغلال نساء ليست من اختصاصهنّ الإعلانات، كاستخدام فتاة ممتلئة للترويج لمجوهرات بطريقة جعلت منها مادةً للتنمّر من قبل المتلقّين على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يؤشر على حالة من عدم الاكتراث بقيمة المرأة في المجتمع، واستخدامها كوسيلة جذب، بصرف النظر عن المخاطر التي ستتعرض لها الفتاة، وصورة المرأة بشكل عام في المجتمع.
وبالنظر إلى ابتعاد الكثير من المعلنين عن الابتكار والتطوير في بضاعتهم، وتركيزهم على طريقة الإعلان، يلجأ بعضهم من جانب آخر إلى استخدام مفردات تلامس عقائد فئات اجتماعية قد تتأثر كثيراً بها، كالقَسَم برموز دينية على كفاءة هذه المنتجات، مثل "العباس أبو فاضل"، و"علي بن أبي طالب"، وهما رمزان مقدّسان في العراق لدى أتباع الطائفة الشيعية، ليكون أساس الإعلان هو القَسَم على أن المنتَج فعّال، بعيداً عن أي معلومات عنه ومدى جودته.
قد تُنشر هذه الإعلانات بقصد الترويج للمنتجات وزيادة الإقبال عليها، إلا أنها تؤثر سلباً -بقصد أو بغير قصد- على النظرة المجتمعية إلى المرأة ودورها. فبحسب الناشطة النسوية دينا الأيوبي، في حديث لها مع موقع عربي "هذا النوع من الإعلانات هو انتهاك لجسد المرأة، لأنه يجسدها كأداة تسويقية بحتة لجذب المستهلكين وزيادة المبيعات. هذا السلوك يُعزز النظرة السطحية إلى المرأة، ويُقلل من قيمتها الإنسانية والمهنية، لأنه يركز على أجزاء معينة من جسدها، مثل خلفية الجسد، ومنطقة الصدر، أو منطقة البكيني، ما يحوّلها إلى مجرد وسيلة بصرية تفتقر إلى الاحترام والإنسانية، بالإضافة إلى زيادة التنميط الجسدي المثالي للنساء، ما يدفعهنّ لإجراء عمليات التجميل مثل تكبير الثديين والمؤخرة والنحت، لتحقيق هذه الصورة المثالية الزائفة، أو للحصول على وظائف، ما يدفعهنّ للدخول في دائرة التسليع بشكل أكبر".
وتضيف "تُرسّخ هذه السلوكيات السلبية صوراً نمطيةً تُظهر المرأة ككائن جنسي فقط، وتزيد النظرة الدونية إلى النساء، وتحدّ من فرصهنّ في المشاركة الفعّالة في مختلف مجالات الحياة. زيادةً على ذلك، هذا التسليع يعزز الصورة النمطية بأن كل أنثى غير محجبة أو لا ترتدي العباءة، هي امرأة غير محترمة، ما يزيد من الضغط الاجتماعي عليهنّ لارتداء الحجاب أو العباءة بشكل قسري. وبما أننا في مجتمع ذكوري أبوي، فإن خطاب الكراهية هذا يؤدي إلى منع النساء من التواجد في وسائل التواصل الاجتماعي، من قبل ذويهنّ من الرجال، أو فرض العباءة والحجاب على الفتيات من قبل رجال العائلة أو أزواجهنّ، كما يتم منعهنّ من وضع صورهنّ في برامج التواصل الاجتماعي".
وتشير الأيوبي، إلى أن "بعض الفتيات يقبلن بتصوير مثل هذه الإعلانات بسبب عوامل كثيرة، منها الحاجة المادية، والبحث عن فرص عمل في بيئة اقتصادية صعبة، أو يمكن أن تكون لديهنّ الرغبة في الشهرة والظهور الإعلامي، دون الوعي الكامل بتداعيات المشاركة في هذه الإعلانات على صورتهنّ وحقوقهنّ. كما أنَّ القبول بمثل هذه الأدوار يعكس تأثير الإعلانات التي تُسوّق المرأة كسلعة، ما يجعل الفتيات يرين في هذا العمل وسيلةً للحصول على مكانة اجتماعية أو مادية. وفي سعيهنّ إلى تحقيق هذه المكانة، قد يلجأن إلى إجراء عمليات التجميل المبالغ فيها".
برأي الأيوبي، "يجب تشجيع الجهات الإعلامية والشركات على تبنّي سياسات تحظر استخدام الصور النمطية المسيئة إلى النساء، كما يجب أن يكون للجهات الرقابية الإعلامية الحكومية دور في منع هذه الإعلانات، بالإضافة إلى أهمية تفعيل دور نقابات العمال في منع تشغيل النساء بهذه الصورة المهينة التي يلجأن إليها بسبب حاجتهنّ المادية إلى هذا العمل، ويتم إرغامهنّ على مثل هذا النوع من العمل. ويمكن للحكومات والمؤسسات النسوية العمل على سنّ قوانين تُعاقب على استغلال جسد المرأة. وتتضمن الحملات الناجحة إشراك النساء في عملية صنع القرار والترويج لنماذج إيجابية تُبرز إنجازاتهنّ وقدراتهنّ المهنية".
لا يوافق المدير التنفيذي لشركة "بريدج" للتسويق والإعلان، أحمد عذاربة، على ما قالته الأيوبي، حول فرض رقابة إعلامية حكومية على الإعلانات، ويعزو عدم موافقته إلى أن هذا يحدّ من عملهم وإمكانياتهم الإبداعية. وفي الوقت ذاته، يؤكد عذاربة، وجود فئات سلبية بين شركات التسويق والإعلان التي تنشر محتوى كهذا، ويقترح أن تكون هناك نشرات توعوية بالآثار السلبية لهذه الإعلانات".
ويقول إن "دوافع استخدام هذه الأساليب في الإعلانات عديدة وأبرزها جذب انتباه المشاهد الذكر، وتسبّب تشويهاً لصورة المرأة بشكل عام ومعاملتها معاملة السلعة التي تحاول بيعها، وتختلف طريقة استقبالها من عميل إلى آخر، لأنها تعتمد على عقليته، ففي أغلب الأحيان تلقى قبولاً، وفي أحيان أخرى يُكشف هذا الأسلوب على حقيقته كطريقة غير أخلاقية لجمع المشاهدات".
ويضيف "توجد آلاف الأساليب للتسويق الفعّال، وبصفتي مالك شركة للتسويق والإعلان، يمكنني القول إننا نقوم باستخدام الذكاء الاصطناعي في التسويق، وهو ما مَكّن من تصنيفنا كإحدى أفضل عشر شركات تسويق وإعلان في الأردن، دون اللجوء إلى الأساليب التي نناقشها والتي تؤثر في صورة المرأة في المجتمع إجمالاً".
ويشير عذاربة، إلى الإعلانات الناجحة، بقوله إن "أي إعلان ناجح تكون فيه مكوّنات معينة، مثل أول خمس ثوانٍ منه، بالإضافة إلى مادة المنتج نفسها، وكل شيء يعتمد على جودة الإعلان، إذ نستخدم إستراتيجية ‘التسويق الذكي’ التي يُعتمد فيها على الثواني الخمس الأولى من الفيديو، لأن مدى الاهتمام لدى الجنس البشري حالياً قليل جداً، ويمكن ملاحظة ذلك عند تصفح المستخدم لتيك توك أو فيديوهات ريلز، حيث يقلّب بالفيديوهات بشكل سريع إلى أن يلفت انتباهه فيديو معيّن، فلو كانت أول خمس ثوانٍ من الفيديو بُنيت بطريقة مدروسة بناءً على قواعد عديدة نستخدمها حسب المنتجات أو الخدمة التي يتم الإعلان عنها، فسيكون الإعلان ناجحاً".
لهذه السلوكيات تفسيرات وتأثيرات نفسية توضحها المتخصصة في علم النفس التربوي د. إيناس هادي، تقول إنَّ "لهذه الأساليب تأثيرات نفسيةً واجتماعيةً عميقةً، تتراوح بين تشويه الصورة الذاتية وتقدير الذات، وتعزيز السلوكيات الاجتماعية السلبية والتمييز الجنسي، والصورة الجسدية للنساء، لأنها ترسخ النظرة المتدنية إلى المرأة حيث تُعامل كأداة جذب جنسي بدلاً من معاملتها كفرد ذي قيمة إنسانية، ما يعزز النظرة السطحية التي تفضّل المظهر وتهمل الجوهر، وتالياً تؤدي إلى تطبيع سلوكيات التحرش الجنسي والتمييز ضد النساء، وتعزز المفاهيم المغلوطة عن دور المرأة في المجتمع وحقوقها، وتدهور القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية من خلال تعميم صور وسلوكيات لا تتفق مع القيم الثقافية والدينية".
وتضيف "يمكن أن تؤثر هذه الإعلانات في تغيير السلوك الاستهلاكي والقرارات الشرائية، حيث قد يتم دفع المستهلك لشراء منتجات لا يحتاجها فعلياً، لكنه يشتريها بسبب الجذب البصري والعاطفي للإعلانات فحسب. كما يمكن أن تتسبب هذه الإعلانات في تأثيرات ثقافية ودينية في مجتمع ذي قيم ثقافية ودينية تقليدية، قد تقود إلى صدامات ثقافيةً وتؤدي إلى رفض جماعي للمنتجات أو العلامات التجارية التي تستخدم هذا الأسلوب. أيضاً قد يتسبب العرض المستمر لمثل هذه الإعلانات على الشباب والمراهقين العراقيين، في تغييرات في مفاهيمهم حول العلاقات والجنس والأدوار الاجتماعية، وربما يؤدي إلى مشكلات نفسية مثل القلق والاكتئاب".
وعن دوافع استخدام هذه الأساليب من قبل المتاجر والشركات، تقول هادي: "تلجأ بعض المتاجر إلى هذا الأسلوب في الترويج لجذب الانتباه بسرعة، إذ إن الصور الجذابة تحفّز الأفراد وتشجعهم لشراء السلع والمنتجات، وهذا ما يُعدّ استغلالاً لجسد المرأة، وأيضاً لزيادة المبيعات، حيث تشير الدراسات إلى أن الإعلانات التي تتضمن عناصر جنسيةً يمكن أن تزيد من نية الشراء لدى بعض الفئات من الجمهور، بالإضافة إلى مبدأ التنافسية، إذ تلجأ المتاجر إلى استخدام أساليب مثيرة للجدل ومحفزة عاطفياً في سوق مشبع بالحاجات للتميّز عن المنافسين وجذب قاعدة عملاء أوسع، كما أن استخدام صور نسائية جذابة قد يكون بديلاً أقل تكلفةً من إنتاج إعلانات أكثر تعقيداً أو جودةً، مما يوفر على الشركات ميزانية التسويق".
في المحصلة، من الواضح أن استغلال أجساد النساء في الإعلانات الترويجية بطرائق غير أخلاقية يمثّل تجاوزاً على الكرامة الإنسانية للمرأة، ويعكس نظرةً ضيّقةً ومتخلفةً عن تقدير الجنسين، كما يعزز الاستعراض ويقوّض التقدم نحو مجتمع أكثر إنصافاً واحتراماً للجميع. لذا، على الشركات والوسائل الإعلامية أن تتحمل مسؤولياتها الأخلاقية والاجتماعية في استخدام الإعلانات، وأن تتجه نحو إنشاء محتوى يعبّر عن تنوع المجتمع بطرائق تشجع على التفاهم والتقارب بين الأفراد، بدلاً من تعميق الانقسامات والتمييز..