الاقتراض فيه سم قاتل.. هل هناك وسيلة أخرى لإنقاذ الاقتصاد المصري ومنع انهيار الجنيه؟
تسعى مصر إلى الحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، رغم أزمة الديون الضخمة، فما تأثير التوسع في الاقتراض على الاقتصاد المختنق؟ وهل تحمي القروض الجنيه المصري من الانهيار؟
كان إجمالي الدين المصري قد بلغ 392 مليار دولار، منها 137 مليار دولار ديوناً خارجية، بنهاية العام المالي 2020/ 2021، لكن الدَّيْن الخارجي يبلغ الآن 145 مليار دولار، وعلى الحكومة المصرية أن توفر 20 ملياراً لخدمة تلك الديون حتى نهاية العام الجاري، وهو ما يمثل مأزقاً ضخماً.
وتسرع حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي حالياً من عملية بيع الشركات المملوكة للدولة، في محاولة لإنقاذ الموقف، رغم ما يثيره ذلك من انتقادات لأسباب متعددة، منها مدى جدوى "بيع أصول رابحة" وضيق الوقت وتخوفات أخرى.
وفي هذه الأجواء الصعبة، يتخوف البعض من أن التوسع في الاقتراض الخارجي قد يتسبب في انهيار العملة المحلية، بعد أن تراجعت قيمة الجنيه أمام الدولار الأمريكي بنحو الربع خلال الأشهر الستة الماضية فقط.
هل الاقتراض المخرج الوحيد لأزمة مصر الاقتصادية؟
في إطار محاولات الحكومة المصرية لمواجهة الضغوط الاقتصادية الخانقة، عادت لتطرق مجدداً باب الاقتراض للحصول على الأموال بشروط تزداد صعوبة في ظل التطورات الراهنة.
ونقلت وكالة بلومبرغ للأنباء عن مصادر حكومية مصرية قولها إنها تجري حالياً مباحثات مع بنوك إقليمية ودولية للحصول على قرض بقيمة 2,5 مليار دولار في أقرب وقت ممكن. وهناك جهود حثيثة يتم بذلها للحصول على أموال خليجية بعشرات المليارات على شكل إيداعات وقروض واستثمارات.
وعلى ضوء المؤشرات الأولية يبدو أن الحكومة المصرية مستعدة للحصول على مزيد من القروض رغم تشديد شروطها وارتفاع فوائدها. غير أن مخاطر ذلك ليست بالهينة بالنسبة إلى بلد تخطى حجم ديونه ثلثي حجم الناتج المحلي الإجمالي، وهو الحد الذي يُعتبر تجاوزه من المؤشرات الخطيرة على مستقبل الاقتصاد، بحسب تحليل لموقع دويتش فيله الألماني.
ففي عام 2021، احتلت مصر المركز الـ158 من أصل 189 دولة، على صعيد نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وحصلت على المركز الـ100 بالنسبة لمتوسط نصيب الفرد من الدين.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، وصلت نسبة الدين الحكومي العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 91.6%، بعد أن كانت 87.1% في 2013. وتقول الحكومة إنها تأمل خفض نسبة إجمالي الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 85% في السنوات الثلاثة القادمة.
لكن هذا الهدف يبدو من الصعب الوصول إليه، بالنظر إلى خطط القاهرة الرامية إلى اقتراض 73 مليار دولار إضافية عن طريق بيع السندات هذا العام.
وواصل الدين الخارجي ارتفاعه منذ قدوم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم في 2014. فقد بلغ 46.5 مليار دولار في 2013، ثم انخفض إلى 41.7 مليار دولار في 2014، قبل أن يرتفع بحدة في السنوات اللاحقة، ليصل إلى 84.7 مليار دولار في 2016، وإلى 100 مليار دولار في 2018، وإلى 115 مليار دولار في 2019.
تبلغ نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي الآن 33.9%، أي أنها لا تزال في نطاق الحدود الآمنة نسبياً، وفقاً للمعايير الدولية، التي ترى أن النسبة آمنة ما دامت أقل من 60%.
ومع ذلك، عند إضافتها إلى الدين المحلي، الذي كان 79.4 مليار دولار قرب نهاية العام المالي 2012/2013 وصار الآن 255 مليار دولار، فإن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي تصير 89.84%، وهي أعلى بكثير من الحدود الآمنة.
جاءت غالبية الدين الخارجي بين عامَي 2013 و2022 من بيع السندات في الأسواق الدولية. وجاءت هذه الديون كذلك من مؤسسات دولية، مثل صندوق النقد الدولي، والبنوك الدولية.
لماذا تزايدت الصعوبات الاقتصادية؟
مع تراجع الاحتياطي من العملات الأجنبية والارتفاع الجنوني لأسعار الأغذية التي تشكل نحو 13% من قيمة مجمل الاستيراد، تزداد الضغوط المالية والاقتصادية والاجتماعية على الحكومة المصرية.
ويزيد من هذه الضغوط تضرر الاقتصاد من ارتفاع أسعار المشتقات النفطية والسلع الزراعية والمواد الخام اللازمة لمعظم الصناعات المصرية، لاسيما أن مصر أكبر مستورد للقمح في العالم.
كما فقد قطاع السياحة سوقين أساسيين هما السوق الروسية والسوق الأوكرانية. وعلى ضوء ذلك تذهب التقديرات إلى أن مصر تحتاج من الآن وحتى نهاية العام القادم إلى أكثر من 41 مليار دولار لسداد عجز الحساب الجاري وخدمة الديون المستحقة.
وفي هذا السياق، تعتبر مصر من بين أكثر الدول التي اعتمدت على الاستدانة خلال السنوات الست الماضية بهدف سد العجز في موازين المدفوعات وتمويل المشاريع الضخمة في مجال الطاقة والسكك الحديدية والعاصمة الجديدة.
وشكلت قروض صندوق النقد الدولي وإيرادات بيع الأذون والسندات الحكومية مصادر أساسية لذلك، فقد قدم صندوق النقد لوحده على سبيل المثال 20 مليار دولار قروضاً للقاهرة خلال الفترة المذكورة.
ومع ارتفاع تكاليف استيراد الأغذية والمواد الأولية ومصادر الطاقة بسبب كورونا والحرب في أوكرانيا تراكمت الديون الخارجية أكثر فأكثر لتتجاوز 145 مليار دولار في الربع الثاني من العام الجاري 2022 مقابل 130 مليار دولار قبل أقل من عامين. وتتوقع مؤسسة التجارة الخارجية والاستثمار الألمانية أن يصل مجموع الديون الخارجية والداخلية هذه السنة إلى نحو 94٪ من الناتج المحلي الإجمالي الذي يزيد على 400 مليار دولار.
وبالتالي، فإن تراكم المزيد من الديون له أسباب متعددة، من أبرزها استمرار العجز الكبير في موازين التجارة والمدفوعات الخارجية. وعلى الرغم من زيادة عائدات البلاد من تصدير الخضار والفواكه والغاز المسال، فإن هذه العجوزات مستمرة في الارتفاع. فعجز الميزان التجاري على سبيل المثال لم يتراجع خلال العام الماضي. وهناك خشية من ارتفاعه هذه السنة بأكثر من 3 مليارات دولار ليصل إلى 36 مليار دولار.
وحسب البنك المركزي المصري، وصل عجز ميزان المدفوعات إلى أكثر من 7 مليارات خلال الفترة من يوليو/تموز 2021 حتى مارس/آذار 2022. ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى ارتفاع تكاليف استيراد الأغذية والمواد الأولية. وما يزيد الطين بلةً هو أن مصر من بين أكثر الدول استيراداً للمواد الغذائية والمواد الأولية. كما أن مشاريعها الضخمة في مجال البنية التحتية تلتهم عشرات المليارات من الدولارات سنوياً.
ويؤدي تراكم الديون إلى زيادة أعباء خدمتها سواء على صعيد دفع الفوائد أو الأقساط المترتبة عليها. وهو أمر ينهك الموازنة المصرية التي يتوقع أن يكون عجزها بحدود 30 مليار دولار هذه السنة. ويدل على زيادة الأعباء وصول حجم السداد إلى 24 مليار دولار خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022.
يشمل هذا المبلغ، حسب البنك المركزي المصري، عشرة مليارات لسداد خدمة الدين الخارجي و14 مليار دولار لصناديق الاستثمار الأجنبية، لا سيما التي سحبت استثماراتها من السندات المصرية على ضوء التضخم وانخفاض سعر الجنيه المصري وعدم رفع سعر الفائدة. ويزيد حجم السداد المذكور على المبلغ الذي كان على البلاد دفعه خلال سنة بكاملها من السنوات القليلة الماضية.
ما مخاطر المبالغة في الاقتراض؟
بحسب تحليل دويتش فيله، تزيد المبالغة في الإقبال على القروض بالنسبة إلى مصر من مخاطر انزلاقها إلى قائمة الدول غير القادرة على السداد. فخلال السنوات الماضية تمكنت من القيام بهذا السداد بفضل تدفق الاستثمارات الأجنبية وقروض صندوق النقد الدولي والمؤسسات المانحة.
لكن خروج هذه الاستثمارات مؤخراً وتصعيب شروط القروض وارتفاع أسعارها يحتم على مصر التخفيف منها قدر الإمكان. وفيما عدا ذلك فإن مخاطر وقوعها في فخ الديون أمر غير مستبعد، لاسيما أن الاقتصاد المصري ضعيف في مجال التصدير.
ومن شأن الوقوع في هذا الفخ فقدان أو المزيد من إضعاف السيطرة على الأوضاع الاقتصادية والمالية، ما يعني المزيد من التضخم وارتفاع الأسعار ورفع الدعم عن السلع الأساسية وانتشار الفقر وخطر وقوع احتجاجات اجتماعية.
كما أن التأثير ينعكس مباشرة على قيمة الجنيه المصري، الذي اضطر البنك المركزي إلى تخفيض قيمته مقابل الجنيه خلال مارس/آذار الماضي، أو ما يعرف بالتعويم الثاني للجنيه. ويبدو أن تعويماً ثالثاً قد يكون حتمياً، في ظل كسر الجنيه لحاجز 19 مقابل الدولار واقترابه من 20 جنيهاً للدولار الواحد.
أما البديل عن المبالغة في الاقتراض فيتمثل في إعطاء الأولوية لتسريع الخطى في مجال الاعتماد على مصادر دخل محلية مستدامة من خلال إعادة هيكلة الصادرات والواردات بحيث يتم تقليص العجز المزمن في الميزان التجاري حتى يحقق التوازن المطلوب.
وفي هذا الإطار، لا بد من إعطاء المزيد من الاهتمام لزيادة نسبة الاكتفاء الذاتي من الأغذية والأدوية والمواد الأولية اللازمة للصناعات التحويلية التي تمثل قيما مضافة عالية في السوقين الداخلية والخارجية. ومما لا شك فيه أن الكثير من خطوات الترشيد والتقشف التي بدأت على صعيد استهلاك الكهرباء وتخفيض الدعم عن بعض السلع ورفع الرسوم الجمركية عن سلع كمالية خطوات مهمة في الاتجاه الصحيح.
الخلاصة هنا هي أن توجُّه الحكومة المصرية لمزيد من الاقتراض يمثل مخاطرة ضخمة على الاقتصاد والعملة المحلية، لكن لا تلوح في الأفق مؤشرات على وجود حلول أخرى متاحة على المدى القصير، في ظل موقف متأزم وأقساط ديون مستحقة يمثل التخلف عنها كارثة كبرى.