حماية التاريخ والهوية.. دراسة تكشف عن تحديات الحفاظ على التراث الثقافي في العراق
سلط معهد "تريندز للبحوث والاستشارات" الذي يتخذ من أبوظبي مقرا له، الضوء على تحديات الحفاظ على التراث الثقافي في العراق، مستعرضا الجهود المبذولة داخليا وخارجيا، والمقترحات اللازمة لحماية هذا ارث العراق وسط حروبه، باعتباره اكثر من مجرد بقايا من الماضي، وإنما رموزاً للهوية والتاريخ والاستمرارية الحضارية، بما في ذلك اللجوء الى نشر قوات حماية عسكرية.
وبداية، قال المعهد في دراسته الصادرة بالانجليزية، إن الحضارات القديمة ازدهرت في العالم العربي وتركت خلفها ثروة من الكنوز الثقافية، لكن ويلات الحروب عرضت هذا التراث الغني للخطر، مضيفا أن تدمير مواقع التراث الثقافي في الدول التي مزقتها الحرب مثل العراق، لا يشكل خسارة لهذه الدول فحسب، بل أيضا للإنسانية بأجمعها.
وبعدما ذكرت الدراسة بأن هذه المواقع "هي أكثر من مجرد بقايا من الماضي، وإنما رموز الهوية والتاريخ والاستمرارية الثقافية"، اشارت الى ان العديد من الاتفاقيات الدولية تسعى الى بذل جهد لوضع تعريف موضع التنفيذ واتخاذ إجراءات لمنع تعرض المواقع الثقافية للخطر، خصوصا بعدما جرى في الحرب العالمية الثانية من خسائر للقطع الفنية، مشيرا الى ان اهم اتفاقيتين هما "اتفاقية حماية الملكية الثقافية في حالة النزاع المسلح" (لاهاي، هولندا في العام 1954) و"الاتفاقية المتعلقة بحماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي (باريس في العام 1972). وتقول الدراسة ان اتفاقية لاهاي تدعو العسكريين الى العمل جنبا الى جنب مع الجهات المدنية لضمان سلامة المواقع في أوقات السلم وأثناء الحرب وبذل الجهد لاحترام المواقع والامتناع عن عسكرتها، بالاضافة الى حماية الآثار ونقلها الى مناطق بعيدة عن المواقع العسكرية أو الصناعية لضمان سلامتها.
كما تم توسيع الاتفاقية بعد حروب الثمانينات والتسعينات وصارت تتضمن بنودا تشير بوضوح الى العقوبات المفروضة في حالة الانتهاكات، سواء على المستوى الفردي أو الوطني.
العراق كنموذج دراسة
وذكرت الدراسة أن الحرب والإرهاب والدمار، وهي العوامل التي أدت إلى تلك هذه الاتفاقيات بالدرجة الاولى، كان لها أثرها على العالم العربي، مضيفا أن المأساة تتمثل في أن الحرب والإرهاب اجتاحت مؤخرا الدول التي كانت مزدهرة عبر التاريخ، مشيرة في هذا السياق الى العراق الذي كان احد أهم البلدان من حيث التاريخ والثقافة، وصار يكافح من أجل الخروج من دوامة الصراع والاضطرابات.
وبحسب الدراسة، فإن غالبية مواقع التراث الثقافي في العراق اما انها معرضة للخطر او مدمرة جزئيا. ووصفت الدراسة العراق بأنه "مهد الحضارة، وموقع الكتابة الأولى في تاريخ البشرية، وعاصمة الدولة العباسية"، معربة عن الاسف لان هذه الامة مزقتها الحرب وشهدت حربين حديثتين وظهور جماعة متطرفة، مشيرة الى ان تاريخ العراق يعود الى الاف السنين من خلال بلاد ما بين النهرين القديمة ومدنها العظيمة والمتطورة. ولفتت إلى أن هذا التراث الثقافي القديم تأثر بشكل كبير بالعوامل المعاصرة، مثل حرب العام 2003 وأفعال تنظيم داعش.
وفي هذا السياق، لفت التقرير الى وجود 5 مواقع للتراث الثقافي تابعة لمنظمة اليونسكو، وثلاثة منها حالتها خطيرة،
وعددت الدراسة هذه المواقع كالتالي:
-الحضر في نينوى، والتي ازدهرت كمركز ديني وتجاري بارثي في القرنين الأول والثاني الميلاديين.
واشار التقرير الى انها تعرضت للدمار على يد مسلحي داعش في العام 2015 حيث قاموا بتدمير التماثيل والزخارف، الا ان الموقع ظل سليما بدرجة كبيرة وأضرار محدودة بالجدار الخارجي.
-مدينة آشور التي كانت في الماضي العاصمة الاولى للامبراطورية الاشورية ومركزها الديني، هي تحتل موقعا مهما تاريخيا وثقافيا، وكانت بمثابة حلقة وصل بين المجتمعات البدوية والمستقرة.
ولفتت الدراسة الى ان ان آشور تواجه تهديدات مستمرة من الصراع والتحديات البيئية، موضحا أن داعش الحق اضرارا جسيمة ببوابة الطبيرة في آشور ودمر 70% منها، بينما تسبب التآكل الناتج عن المياه الى اضعاف هيكلها.
وتابع قائلا ان مشروع سد مكحول، الذي أعيد إحياؤه بسبب الجفاف المستمر، يشكل تهديدا بإغراق المدينة القديمة وتشريد ما يصل الى 250 الف شخص.
-مدينة سامراء القديمة تمثل شهادة رائعة على الخلافة العباسية، وهي تتمتع بالفرادة بين العواصم الاسلامية، وتحافظ على تخطيطها الحضري الاصلي، والهندسة المعمارية، والعناصر الفنية، بما في ذلك الفسيفساء والمنحوتات المعقدة. واضاف ان سامراء تشكل أفضل مثال محفوظ لمدينة كبيرة من تلك الحقبة، موضحا أنها باعتبارها العاصمة الثانية للخلافة العباسية بعد بغداد، فانها بمثابة التجسيد المادي الوحيد الباقي للامبراطورية في اوجها، وتضم اثنين من اكبر المساجد ذات المآذن المميزة والقصور الأكثر توسعا في العالم الإسلامي. وأعربت الدراسة عن الاسف لأن المدينة أصبحت معرضة للخطر بسبب الصراع المستمر وسوء الاستخدام الحكومي، بما في ذلك بناء ثكنة للشرطة بالقرب من الجامع الكبير في سامراء والذي أثار قلقا كبيرا.
وبينما قالت الدراسة ان العراق عانى من حربين حديثتين وسيطرة داعش على بعض المواقع، الا انها اشارت الى انه يتعافى ببطء بالتعامل مع الأضرار والعودة إلى مجده السابق، مضيفة أن مواقع التراث الثقافي في البلد تظهر مؤشرات انتعاش بطيء.
وذكرت الدراسة ان الحكومة العراقية الحالية اطلقت عدة مبادرات، وهي تبذل جهودا من اجل الحفاظ على مواقع التراث الثقافي، من أبرزها ما يبذل من جهود هو لإحياء السياحة لكي يتسنى للناس أن يستكشفوا المواقع وإقامة المهرجانات في بعض المواقع، مع توفير مصدر دخل مستدام أيضا لإصلاح المواقع الغنية والحفاظ عليها.
واضافت الدراسة ان العمل مع اليونسكو ضمن اتفاقية لاهاي والالتزام بقواعدها من شأنه تعزيز فرص الحفاظ على هذه المواقع. لكن الدراسة وصفت اليونسكو بأنها "أكبر لاعب في الحفاظ على مواقع التراث الثقافي في العراق".
كما أشارت إلى لاعبين آخرين من بينهم "الجمعية الأمريكية للأبحاث الخارجية (ASOR)" التي وصفتها بأنها منظمة غير ربحية تحصل على الاموال من مؤسسات مختلفة والجهات المانحة لتوثيق وحماية والحفاظ على مواقع التراث الثقافي على وجه التحديد في البلدان التي مزقتها الحرب، مضيفة أنه لديها الآن 138 مشروعا، 15 منها في العراق.
كما لفتت الدراسة الى دور "المركز الدولي لدراسة حماية وترميم الممتلكات الثقافية (ICCROM)". ولفتت ايضا الى "برنامج أثر" الذي تشارك فيه امارة الشارقة الاماراتية والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ALECSO) ووزارة الخارجية الايطالية.
وبناء على "الحالة الفريدة" التي يمثلها العراق للدراسة، فقد طرح المعهد اقتراحات من أجل التعامل مع التحديات لحماية مواقع التراث الثقافي عموما، هي كالتالي:
اولا: نشر قوة سلام مسؤولة عن حماية المواقع الثقافية دون أي تحيز سياسي، وذلك بهدف حماية المواقع واتاحة الفرصة للمتخصصين لترميم الموقع مع تحفيز الدول ايضا على المساعدة والتعاون في استعادة المواقع بشكل مستدام.
وتابع ان هذا الاقتراح يتيح ايضا لجيوش الدولة بالمشاركة في قضية نبيلة، مما يزيد من القوة الناعمة للامة وتبادل الخبرات في حماية المواقع الثقافية بشكل عام.
ثانيا: التعاون بين المنظمات غير الحكومية والهيئات الحكومية التي تشترك في هدف واحد لتسهيل إنجازها ووضع خطة أكثر فعالية.
ثالثا: خلق حافز مستدام لاستعادة المواقع وحمايتها من خلال الخطط والإدارة السياحية التي تشرك المجتمع في تثقيفهم حول اهمية الموقع وتمنح المواطنين فرصة لادارته، مما يعزز فيهم الشعور بالملكية والمسؤولية.
رابعا: على الحكومات ان وضع تدابير حماية قانونية صارمة لتعزيز حماية الموقع من خلال المراقبة الروتينية وعقوبات كبيرة على الانتهاكات.
خاتمة
وختمت الدراسة بالقول إن الحفاظ على مواقع التراث الثقافي في الدول العربية التي مزقتها الحروب مثل العراق يمثل تحديا هائلا"، مضيفة أن الجهود المبذولة لحماية هذه المواقع من خلال الاتفاقيات والمبادرات الدولية المختلفة، تظهر مدى تعقيد المهمة والحاحها".
وبرغم اشارة الدراسة الى ان "اتفاقيات لاهاي وباريس توفر اطارا للحماية، الا ان تنفيذها حافل بالصعوبات، خصوصا في المناطق التي ينتشر فيها الصراع وعدم الاستقرار".
وتابعت الدراسة في خلاصتها أن "حماية التراث الثقافي تتطلب أكثر من مجرد اتفاقيات دولية وجهود تنظيمية"، موضحة أنها تستدعي "نهجاً شاملاً وتعاونياً" بما في ذلك نشر قوات محايدة لحماية المواقع، وبنود قانونية أكثر قوة على المستوى الوطني.
واختتمت الدراسة بالقول إن "نجاح هذه الجهود يعتمد على الارادة الجماعية والعمل الجماعي للمجتمعات العالمية والمحلية، من خلال اتحادهم على فكرة الإقرار بأن خسارة اي موقع من مواقع التراث الثقافي، يؤثر علينا جميعا".